
د. احمد الهباهبه
يوم أمس، لم يكن المشهد في مقبرة سحاب الإسلامية عاديًا. لم يكن الحزن وحده هو ما خيّم على وجوه المشيعين، بل جاءت موجات الغبار والأتربة لتزيد من وطأة الفقد، وتكشف جانبًا آخر من الإهمال المزمن الذي تعانيه هذه المقبرة، إحدى أكبر وأهم المقابر في العاصمة عمّان.
ذهبتُ لأداء واجب العزاء والمشاركة في دفن أحد أبناء المغارف، فوجدتُ نفسي، كما العشرات من الحضور، نكافح الهواء المحمّل بالغبار الكثيف، نتقيه بأيادينا وأطراف ثيابنا. لم تكن الرياح استثنائية، بل من النوع الذي تشهده عمّان بين الحين والآخر، لكنّ غياب الأشجار، وانعدام الأرصفة المعبدة، وترك الأرض على حالها بلا تشجير أو تسوية، جعل من الريح أداةً موجعة، ومن التراب سلاحًا يؤذي حتى في لحظات الوداع.
نعلم يقينًا أن الطقس لا يُمكن السيطرة عليه، لكنّ تأثيره يُمكن الحد منه. فكم من مدنٍ ومناطق واجهت المناخ ذاته، لكنّ حسن التخطيط، والتشجير، واستصلاح الطرق، جعل منها بيئة أكثر إنسانية، حتى في أحلك اللحظات. فما الذي يمنع الجهات المعنية من تهيئة مقبرة سحاب بمسارات مبلطة، وأشجار تحد من تطاير الغبار، ولو بحدّها الأدنى؟
ما جرى أمس ليس مجرد “انزعاج مؤقت”، بل مؤشر على تقصير طويل الأمد. مقبرة سحاب لا تعاني فقط من التربة الجافة التي تتطاير على الأحياء وهي تودّع موتاها، بل من فوضى التنظيم، وندرة الأماكن، وغياب الإرشاد. كثيرون، وأنا من بينهم، شهدوا حيرة الأهالي في البحث عن مكان مناسب للدفن، حتى باتت “رحلة الوداع” تبدأ من الألم ولا تنتهي عنده.
هنا، لا أطرح مجرد شكوى عابرة، بل أرفع صوتي، كما يرفع معي مئات المواطنين، مناشدين أمانة عمّان الكبرى ووزارة البيئة ووزارة الأوقاف أن تلتفت لهذه البقعة التي لا تقل قدسية عن المساجد والمرافق العامة. فالموتى لهم حقٌّ علينا، كما للأحياء حق في وداعٍ كريم لأحبائهم.
نريد بيئة تليق بالوداع، وطرقات تسهّل الدفن، وتشجيرًا يحجب الغبار لا الأمل. نريد أن تتحول مقبرة سحاب إلى مساحة هادئة تُشبه السلام الذي يُفترض أن يرافق الأموات، لا إلى ساحة معاناة مضافة لما لا يُحتمل.
إن كانت لحظة الموت عظيمة ومهابة، فلا تجعلوها لحظة إرباك وارهاق.