مدارس وجامعات

الحصة السابعة.. بين التعليم والتعب

هلا نيوز

تُطلّ الحصة السابعة في المدارس الأردنية مثل ظلٍّ طويلٍ عند أطراف النهار، تثير الجدل بين الأهالي والتربويين، وتُشعل في الوقت ذاته نقاشاً أعمق حول معنى اليوم المدرسي وحدوده الإنسانية. فما أن يرنّ جرسها حتى تتناثر التنهيدات في الممرات، ويتباطأ الخطو على الدرجات، وتعلو أصوات الأمهات عبر المجموعات المدرسية: “أليس كافياً هذا اليوم الطويل؟!” لكن خلف هذا السؤال البسيط، تختبئ منظومة كاملة من الرؤى والتناقضات، بين من يرى في الحصة السابعة عبئاً يجب رفعه، ومن يراها ضرورة لضبط الخطة الدراسية، وبين الاثنين مساحة رمادية مليئة بالحيرة والجدل.

من الناحية التربوية البحتة، جاءت الحصة السابعة استجابةً لحاجة تنظيمية: ازدحام الصفوف، ونقص الأبنية، وكثرة المواد التي تزدحم في منهاجٍ لا يسعه الوقت. فكان الحل في تمديد اليوم الدراسي ساعةً أخرى، وكأننا نضيف إلى النهار بعض الضوء كي يتسع للعلم. لكننا نسينا أن العقل ليس مصباحاً يزداد ضوءه بالوقت، بل شُعلةً تخبو حين تُجهِدها الريح. فالتلميذ بعد ست حصص متتابعة لا يكون متلقياً، بل مقاوِماً للنعاس والجوع والتشتت، يكابد ليحافظ على تركيزه، ويجاهد كي يبدو حاضر الذهن بينما روحه تركض نحو البيت.

ولذلك يرى علماء التربية أن التعلم في نهاية اليوم الدراسي يشبه الحرث في أرضٍ عطشى، تُبذَر فيها البذور فلا تجد رطوبة الوعي لتنبت. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن للحصة السابعة منطقها الواقعي في بعض المدارس؛ فهي أداةٌ لضمان التوازن الزمني، ولتوزيع المواد بعدالة بين الصفوف، خصوصاً في المدارس ذات الفترتين. لكن الخلل لا يكمن في وجودها، بل في وظيفتها وطريقتها. فلو جُعِلَت الحصة السابعة نافذة للتعبير والأنشطة اللامنهجية، أو فرصة للدعم الأكاديمي المرن، لَتَحوَّلَت من عبءٍ إلى متنفس، ومن عبثٍ إلى معنى.

على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال البعد الاجتماعي والنفسي في هذا الجدل. فلهفة الطالب للعودة المبكرة إلى البيت ليست دائماً دليلُ حبٍّ للبيت أو شوقٍ للراحة. كثيرٌ من الطلبة يركضون بعد المدرسة لا نحو أسِرَّتِهم أو كتبهم، بل نحو هواتفهم وألعابهم الإلكترونية، أو إلى تجمعات الأصدقاء في الساحات والحدائق، حيث تتبدد الساعات بين اللهو والضجيج. وهنا يكمنُ خطرٌ تربويٌّ صامت، إذ إن تقليص اليوم الدراسي دون توجيهٍ أو بدائلٍ هادفة، يفتح الباب لانحرافٍ سلوكيٍّ مبكرٍ أو تشتّتٍ في القيم والاهتمامات.

أما الأهالي، فمشاعرهم تجاه الحصة السابعة متداخلة بين العاطفة والواقعية. فهم يتوقون لعودة أبنائهم باكراً، لا بدافع الحنين فقط، بل أيضاً للخلاص من مسؤولية المشوار الطويل بعد ساعات العمل الشاقة. يصل بعضهم إلى بوابة المدرسة مثقلين بتعب الوظيفة وضيق الوقت، فيتمنون أن يكون اليوم أقصر ليعودوا مع أبنائهم إلى البيت ويطووا صفحة النهار. لكن ما إن يحلّ المساء حتى تبدأ حكاية أخرى: الأبناء لم يناموا باكراً كما تمنّى الأهل، ولم ينجزوا دروسهم كما كان مخططاً. وهكذا يجد الوالدان نفسيهما بين فكي كماشة: لا راحة تحققت، ولا تحصيلٌ تمّ، ولا تربية استقامت على التوازن بين البيت والمدرسة.

هذه المفارقة تعكس صورة أعمق من مجرد “تعب اليوم الدراسي”، إنها مرآة لطبيعة العلاقة بين النظام التعليمي والحياة الأُسَريّة في الأردن. فالنظام يطالب بالانضباط والتقنين الزمني، بينما الأسرة تبحث عن المرونة والدفء والراحة. وبين الاثنين تاه الطالب بين جداول دقيقة وروحٍ متعبة. وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: هل نريد يوماً دراسياً أطول أم تجربة تعليمية أعمق؟ وهل نزن نجاح التعليم بعدد الساعات أم بعمق الأثر؟

ربما آن الأوان لإعادة النظر في فلسفة الجدول الدراسي برمّته، لا بإلغائه ولا بتمجيده، بل بإعادة تعريفه. يمكن أن تتحول الحصة السابعة إلى مساحة مختلفة، أقرب إلى “الساعة الذهبية” التي تجمع بين المتعة والمعرفة، بين الترويح والتفكير. يمكن أن تُخصص للأعمال التطوعية أو الإبداع الفني أو النقاشات الفكرية التي توسّع المدارك دون أن تُرهق الجسد. فالتربية الحقيقية ليست في حشو العقول بالمعلومات، بل في صياغة الإنسان المتوازن الذي يعرف متى يعمل ومتى يستريح، متى يتعلم ومتى يتأمل.

في نهاية المطاف، الحصة السابعة ليست خصماً ولا حليفاً، بل مؤشر على الطريقة التي ننظر بها إلى التعليم والحياة. إنها امتحانٌ صغير لعلاقتنا بالتوازن، بين النظام والرحمة، بين الواجب والإنسان. وحين يدق الجرس الأخير، وتغادر خطوات الطلبة باحات المدارس متجهة نحو الغروب، تبقى الأسئلة معلّقة في الهواء: هل كانت تلك الساعة الأخيرة خطوةً نحو الوعي … أم خطوةً أخرى نحو التعب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى