بين الدعم والضغط.. واشنطن تقترب ميدانيًا من غزة وتعيد رسم حدود الدور الإسرائيلي

في خطوة تحمل دلالات إستراتيجية عميقة، يستعد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال دان كين، لزيارة إسرائيل خلال الأيام المقبلة في إطار جهود البنتاغون لترسيخ ترتيبات ما بعد الحرب في غزة، ومتابعة إنشاء مركز مراقبة وقف إطلاق النار الذي تديره القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM).
وتأتي الزيارة في لحظة حساسة تشهد توترًا سياسيًّا بين واشنطن وتل أبيب حول مستقبل غزة ودور القوى الدولية في إعادة الإعمار وإدارة الأمن.
وبحسب “المونيتور”، من المقرر أن يتفقد كين مركز التنسيق المدني–العسكري الذي أقامته القيادة المركزية الأمريكية في مدينة كريات غات، على بعد نحو 20 ميلًا من الحدود مع غزة.
ويضم المركز، الذي بدأ العمل منتصف أكتوبر، مئات العسكريين من الولايات المتحدة إلى جانب ضباط من دول حليفة، مثل: فرنسا وكندا وبريطانيا وإسبانيا واليونان وقبرص.
يهدف هذا المركز إلى مراقبة وقف إطلاق النار، وتنسيق المساعدات الإنسانية واللوجستية، وتحديد آليات إعادة الإعمار، في ما يشبه “غرفة عمليات متعددة الجنسيات” تعمل تحت إشراف أمريكي مباشر.
وبحسب مصادر أمنية إسرائيلية تحدثت لموقع المونيتور، فقد جرى التنسيق المسبق بين واشنطن وتل أبيب بشأن وجود الضباط الأجانب في المركز، فيما أكدت مصادر دبلوماسية أوروبية أن دور تلك الدول يقتصر على الدعم الفني والتنظيمي.
لكنّ مراقبين يرون أن هذا المركز يمثل عمليًّا أول وجود ميداني منظم للولايات المتحدة وشركائها داخل العمق الإسرائيلي لمتابعة ملف غزة بصورة يومية.
تأتي زيارة كين، التي تعد الأولى من نوعها منذ نهاية العمليات العسكرية في غزة، تتويجًا لجهود دبلوماسية مكثفة قادها البيت الأبيض خلال الأسابيع الماضية؛ إذ تسعى إدارة ترامب للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتثبيت وقف إطلاق النار الهش ومنع تجدد التصعيد.
وتشير تقارير إلى أن واشنطن تجري محادثات مع مصر وأذربيجان وإندونيسيا لتشكيل قوة دولية لحفظ الاستقرار في غزة، في حين تصر القاهرة على تفويض أممي يحدد بدقة قواعد الاشتباك ومهام القوة.
غير أن هذه التوجهات تثير حساسية إسرائيلية متزايدة؛ فحكومة نتنياهو تخشى أن يؤدي تصاعد الدور الأمريكي إلى تقليص سيطرتها على الملف الأمني في القطاع.
وقال وزير الخارجية جدعون ساعر بوضوح إن “إسرائيل هي التي تقرر من يضمن أمنها”، رافضًا أي تدخل تركي أو نشر قوات دولية دون موافقة تل أبيب.
ويبدو أن هذه المخاوف ليست إسرائيلية فقط؛ فالأردن ومصر عبّرا عن تحفظهما تجاه فكرة “قوة فرض السلام” التي طرحها نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، مفضلين خيار “قوة شرطة فلسطينية” محدودة الصلاحيات بدلًا من وجود أجنبي مباشر في غزة.
تؤكد واشنطن أنها لا تعتزم نشر قوات أمريكية في غزة، بل ستكتفي بالمراقبة من كريات غات عبر منظومة استطلاع متقدمة تشمل طائرات مسيّرة وأجهزة مراقبة لحظية توفر معلومات مباشرة عن الوضع الميداني.
ويأتي ذلك في وقت تتزايد فيه المخاوف الأمريكية من أن حركة حماس تستغل الهدنة لتصفية خصومها السياسيين وإعادة بناء شبكاتها العسكرية.
يُذكر أن الجنرال دان كين، القادم من خلفية استخبارية حيث عمل سابقًا مع وكالة المخابرات المركزية، يتمتع بعلاقات وثيقة مع الدوائر السياسية في إدارة ترامب.
ومن المتوقع أن يحمل إلى تل أبيب رسالة مزدوجة: دعم أمريكي للجهود الإنسانية، وضغط واضح لضمان التزام إسرائيل بضوابط وقف النار.
لكنّ مصادر في تل أبيب تشير إلى توتر مكتوم بين الجانبين، خاصة بعد أن طالب ضباط أمريكيون إسرائيل بإخطارهم مسبقًا بأي عمليات قد تخرق التهدئة في غزة، وهو ما اعتبره الجيش الإسرائيلي تدخلًا في صلاحياته السيادية.
تتجاوز أهمية زيارة كين حدود غزة لتلامس معادلة الردع في الشمال. فالمسؤول الأمريكي سيبحث أيضًا مع نظرائه الإسرائيليين تطورات الوضع في لبنان واحتمال تجدد المواجهة مع حزب الله، في ظل قلق واشنطن من انهيار اتفاق وقف النار الذي أُبرم عام 2024.
وترى مصادر مطلعة أن واشنطن تسعى من خلال زيارة كين إلى إرسال إشارة واضحة إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء: أن الولايات المتحدة لن تنسحب من مشهد ما بعد الحرب، بل ستقود هندسة الترتيبات الأمنية في غزة ولبنان عبر أدوات المراقبة والتحالفات متعددة الجنسيات، دون الانزلاق إلى تواجد عسكري مباشر.
وتمثل زيارة رئيس الأركان الأمريكي لإسرائيل اختبارًا مبكرًا لمدى قدرة واشنطن على فرض رؤيتها لإدارة غزة بعد الحرب، وسط رفض إسرائيلي لأي وصاية أجنبية، وتحفظ عربي على فكرة “قوة الاستقرار الدولية”.
وبينما تحاول إدارة ترامب الموازنة بين دعم تل أبيب وطمأنة الشركاء الإقليميين، تبدو غزة مجددًا ساحةً لتقاطع الحسابات الكبرى بين الأمن والسياسة، حيث تراقب الولايات المتحدة من بعيد — ولكن بيدٍ ممدودة للتحكم في مفاتيح المشهد القادم.




