الأخبار الدولية

بين التهديدات وحسابات خامنئي.. سياسات غربية جديدة تقلص هوامش المناورة أمام طهران

جاء تصريح السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، بأنّ النظام الإيراني “يسير في طريق الدمار”، كإشارة نوعية في لحظة سياسية تتّسم بتقلّص هوامش المناورة أمام طهران وتزايد الشكوك الدولية في نواياها النووية، خصوصاً في ظل تعطيل مستمر لآليات التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتآكل فعلي لبنود الاتفاق النووي الذي بلغ يوم انتهائه الرسمي في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، دون أن يسبقه أي التزام جوهري من طهران بشروطه.

النبرة الأمريكية الجديدة بدت أكثر صرامة؛ إذ لا تكتفي بالتحذير وإنما تسعى إلى فرض معادلة سياسية جديدة، تنزع عن النظام الإيراني صفة “الشريك القابل للتفاوض”، وتعيد تصنيفه بوصفه سلطة تبتز الاستقرار الإقليمي من خلال التلويح الدائم بقدراتها التخصيبية.

في المقابل، كان المرشد الإيراني علي خامنئي أطلق قبل أيام تصريحاً يتّسم بالخط الدفاعي المُنكِر، معتبراً أن التهديدات الأمريكية “أوهام”، مكرّراً الخطاب المألوف حول “الحقوق النووية”، في تجاهل تام للانهيار الكامل لمسار الثقة مع المجتمع الدولي.

مصدر دبلوماسي أمريكي يتولّى تنسيق الاتصالات مع الحلفاء الأوروبيين بشأن إيران، قال في تصريحات إن تحذير السفير الأمريكي في الأمم المتحدة هو رسالة واضحة بأن صبر واشنطن لم يعد بلا حدود، وأن النظام الإيراني لا يُعامل اليوم على أنه شريك تفاوضي محتمَل، بل كمُخاطر رئيس يجب احتواؤه. “من هذا المنطلق، يُعدّ البرنامج النووي أحد أركان منظومة نفوذ طهران — وليس المسار الوحيد — ويُستخدم كأداة سياسية واقتصادية داخل إيران وخارجها”.

وتابع بالقول، “إننا في المرحلة الحالية، نعمل على 3 مكونات مترابطة؛ أولاً، تشديد الرقابة والعقوبات ضدّ الجهات التي تُسهّل التخصيب أو تحظّر الوصول إلى مواقع مراقبة، ثانياً، ربط أي مسار تفاوضي بشروط شفافة ونهائية، بحيث لا يعود الملف النووي منفصلاً عن دور إيران الإقليمي ووكلائها، ثالثاً، إشعار النظام الإيراني بأن خيار الحوار موجود فقط إذا أبدى تغيُّراً ملموساً في سلوكه، وليس مجرد إعادة جدولة للضغوط”.

وأضاف، “من وجهة نظرنا، الوقت الذي كانت تستغله إيران لشراء الوقت أو إعادة إنتاج التفاوض على قواعد أقل صرامة قد انتهى. وإذا اختارت طهران مواصلة التحدي وفصم الحوار، فإنها ستمضي في مسار عزلة سياسية واقتصادية متزايدة، مع ارتفاع مخاطر إطلاق إجراءات كُبرى تُغيّر موازين القوى في الإقليم”.

واستدرك المصدر الدبلوماسي قائلاً، “في المقابل، يظلّ الباب مفتوحاً للحوار، لكنّ المبادرة ليست بيدنا وحدنا، لكن بيد طهران أيضاً، والتي عليها أن تختار ما بين الاستمرار في مغامرة الاستفزاز أو العودة إلى منطق الدولة التي تُخضع سياساتها للمسؤولية الدولية، لا التي تُراهن على الفوضى كوسيلة للبقاء”.

وأشار إلى أن “القلق الأمريكي لا يتعلق فقط بتطورات التخصيب أو أرقام المخزون النووي، وإنما بغياب أي إطار زمني يمكن من خلاله التحقق من نوايا طهران. فالمشكلة الحقيقية اليوم أن النظام الإيراني لم يعد يتفاعل مع المبادرات الدولية بوصفها فرصاً دبلوماسية، ولكن باعتبارها أدوات لقياس قدرة المجتمع الدولي على التراجع، وهذا ما يجعل أي حوار غير مشروط مكافأة لسلوك غير منضبط”.

وشدّد على أن الدوائر المعنية في واشنطن باتت تعتبر أن الاستراتيجية الإيرانية تقوم على فصل المسارات بين تخصيب متسارع من جهة، وضغط سياسي عبر الوكلاء الإقليميين من جهة ثانية، وادعاء الاستعداد للحوار في العلن من جهة ثالثة. “هذا النمط التراكبي لم يعد مقبولاً في ظل المؤشرات الأخيرة التي تؤكد أن طهران تواصل توسيع قدراتها التقنية وتقييد عمل الوكالة الدولية، دون أن تقدّم أي التزام موثوق”.

وختم المصدر بالتأكيد على أن “الأولوية الآن ليست التهدئة بأي ثمن؛ إذ لا بد من استعادة الإطار الصارم للعلاقة الدولية مع إيران. نحن لا نواجه مجرد نظام متوتر، بل سلطة تستخدم الغموض النووي لتأمين موقع تفاوضي غير مشروع، وتبني أمنها الداخلي على أساس إبقاء محيطها في حالة توتر دائم. هذا النوع من السلوك يجب أن يُواجَه بردّ واضح، وليس برسائل متباينة تُقرأ في طهران كعلامات ضعف”.

في المقابل، اعتبر مصدر دبلوماسي وهو عضو في الفريق الأوروبي المكلّف بمتابعة الملف النووي الإيراني، خلال حديث لـ”إرم نيوز” أن القلق الأوروبي لا يقتصر فقط على البرنامج النووي الإيراني بوصفه تهديداً تقنياً، إنما يتّصل أكثر بفقدان الثقة السياسية الكاملة في نوايا طهران.

وكشف المصدر الدبلوماسي أن “ما يحدث في الكواليس الأوروبية هو مراجعة حثيثة لخيار العودة إلى أي مفاوضات من دون شروط أكثر صرامة، خاصةً بعد التصعيد الأخير في لهجة النظام الإيراني وتكرار رفضه السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالوصول الكامل إلى منشآته”.

وتابع بالقول، إن عدداً من العواصم الأوروبية باتت تعتبر أن إيران لم تعد تسعى إلى أي اتفاق، وإنما إلى تسويق مرحلة تفاوض لا نهائي تتيح لها بناء قدرة نووية دون أن تدفع الثمن السياسي، “ونحن نراقب ذلك بقلق بالغ”.

وأضاف، “أكثر ما يُثير القلق حالياً هو الاستخدام السياسي العلني للملف النووي في خطاب القيادة الإيرانية، حيث بات واضحاً أن المرشد الأعلى يوظف هذا الملف لتثبيت السلطة داخلياً ورفع كلفة أي تنازل خارجي، وهذا يعقّد أي محاولة لاستئناف مفاوضات جدية في المدى المنظور”.

ورأى أنه ومن وجهة نظر أوروبية، فإن المسألة باتت ترتبط بمسار استراتيجي خطير تتّبعه طهران يعيد إنتاج العزلة المتعمّدة، ويُقوّض فعلياً كل مرتكزات اتفاق 2015، ويضع الاتحاد الأوروبي أمام خيار صعب، فإما الضغط الصريح، أو القبول بأمر واقع نووي يكرّس ميزان ردع غير مستقر في الإقليم.

وختم بالقول، “المؤشرات التقنية لدى الوكالة تثير قلقاً مشروعاً، لكن الانطباع الأوسع لدى شركائنا أن إيران تستخدم البرنامج النووي كأداة تفاوض إقليمي أكثر مما هو مشروع دفاعي أو اقتصادي، وهذا يعيد النقاش إلى طبيعته الأصلية، فهل نحن أمام دولة تُفاوض، أم أمام سلطة تُراوغ لتأجيل الانفجار الداخلي”.

الولايات المتحدة، التي طالما تقلبت مواقفها حيال الملف الإيراني بين التشدد والانفتاح، تبدو في هذه اللحظة أقرب إلى تبني معادلة مزدوجة تتلخص في الضغط العلني المتصاعد من جهة، والتمسك بخطاب “الحوار بشروط” من جهة أخرى. لكن ما تغيّر ليس فقط في النبرة بل في جوهر النظرة إلى النظام الإيراني نفسه، الذي لم يعد يُعامَل كدولة تسعى إلى صفقة تضمن مصالحها، ولكن كسلطة تستثمر في فكرة العداء المستدام وتُراكم أدوات تهديدها الإقليمي من خلال التخصيب النووي المتسارع، وبناء شبكات نفوذ ميليشياوي مترامية، وتحويل أي انفتاح تفاوضي إلى غطاء لشراء الوقت، أو تحسين شروط الاشتباك.

في المقابل، لا يظهر أن طهران في وارد مراجعة سلوكها، فخطاب المرشد الأعلى لا يزال ينضح بمنطق التحدي والإنكار، بوصف المشروع النووي مسألة سيادة لا مساومة عليها، رافضاً أي استجابة لمطالب الرقابة أو التفتيش الكامل، ومستخدماً في المقابل لغة هجومية تستحضر مفردات العدو والتآمر، لتغذية سردية “المقاومة والحصار” التي باتت أساسَ شرعية النظام داخلياً. هذه الشرعية، المتآكلة أصلاً في ظل وضع اقتصادي مأزوم ونقمة اجتماعية مزمنة، لم تعد قابلة للترميم إلا بإنتاج خطر خارجي دائم يُعبّأ من خلاله الداخل ضد المجهول، ويُعاد ترتيب الولاءات المهددة حول مركز السلطة.

العزلة الدولية التي تتزايد حول إيران لم تعد حصيلة ضغوط غربية فحسب، ولكن أيضاً نتيجة مباشرة لسلوك لم يعد بالإمكان التغطية عليه. فالمجتمع الدولي، على تنوعه، يقرأ تراكمات السلوك الإيراني بوصفه رفضاً ضمنياً لأي التزام. وحتى الدول الأوروبية التي حرصت طيلة السنوات الماضية على الحفاظ على الحد الأدنى من مسار فيينا، تجد نفسها اليوم أمام مأزق مفاهيمي متسائلة حول كيفية التفاوض مع سلطة تخزّن ما يكفي من اليورانيوم لصنع أكثر من عشر قنابل، في منشآت لا يمكن دخولها، ثم تعلن جهاراً أن لا نية لديها للتراجع أو الشفافية.

لكن ما يُقلق العواصم الغربية أكثر من التخصيب نفسه، هو توظيف هذا البرنامج كأداة ضغط إقليمي. فإيران لا تبني قدرتها النووية لحماية حدودها، بل لفرض واقع سياسي وعسكري على جيرانها، مدعوم بمنظومة وكلاء من العراق إلى لبنان واليمن، تجعل من أي تهديد لطهران استدعاءً تلقائياً لاشتعال الإقليم.

هذه القراءة تفسر جزئياً لماذا يتّجه الخطاب الأمريكي مؤخراً إلى ربط الملف النووي بالأمن الإقليمي، ولماذا تتكرر الإشارات إلى ضرورة تحميل النظام الإيراني مسؤولية “طموحاته تجاه جيرانه وتدخله في شؤونهم الداخلية”. فالقلق لم يعد محصوراً باليورانيوم، وإنما بما صار يمثله هذا البرنامج من ترسيم جديد لدور إيران في الإقليم، باعتبارها قوة ما دون الدولة التي تمسك بخيوط الفوضى أكثر مما تقدم نموذج دولة يمكن احتواؤه أو دمجه.

الخبير الفرنسي فابيان كروغر، الباحث في السياسات النووية ومراقبة التسلح في معهد الدراسات الأمنية الأوروبية، اعتبر خلال تصريحات  أن ما يجري اليوم مع إيران لا يمكن فهمه من زاوية التفاوض التقليدي؛ لأننا لسنا أمام ملف قابل للاحتواء عبر أدوات دبلوماسية معيارية؛ إذ لم تعد المشكلة في نسب التخصيب أو طبيعة أجهزة الطرد المركزي، وإنما “في السياق السياسي الذي تُدار فيه هذه البرامج، وفي الفرضية الأساسية التي يقوم عليها سلوك النظام الإيراني، وهي أن الالتزامات الدولية ليست سوى أدوات تكتيكية يُعاد التلاعب بها تبعاً للمرحلة والضغوط”.

وتابع قائلاً، “خلال السنوات الماضية، لم تبنِ إيران ثقة تراكمية مع الأطراف الدولية، لكنها حرصت على تقويض أي بنية اتفاق قابلة للاستمرار، فكانت كل محطة تفاوضية تُستخدم لتحقيق مكسب موضعي، ثم تُفرّغ من مضمونها، إلى أن وصلنا إلى وضع باتت فيه طهران تملك مخزوناً من المواد الانشطارية يتجاوز الحدّ المسموح به بعشرات المرات، وتمنع في الوقت نفسه دخول المفتشين إلى مواقع بالغة الحساسية”.

ورأى كروغر أن هذا الانفصام بين الخطاب السياسي والممارسة الميدانية لا يمكن تفسيره إلا باعتباره استثماراً في عدم الوضوح، وهو استثمار لا ينتمي إلى حسابات الأمن القومي، وإنما إلى منطق السلطة التي ترى في التهديد النووي وسيلة لإبقاء محيطها في حالة استنزاف سياسي دائم.

وأضاف، “ما يُثير القلق ليس فقط ما تفعله إيران، ولكن أيضاً في كيفية تعاطيها مع ردود الفعل. هناك إصرار واضح على خفض مستوى الحوار إلى معادلة إمّا أن تُرفع العقوبات دون شروط، أو نمضي في التصعيد. وهذه معادلة لا تعكس رغبة في التفاوض، بقدر ما تعكس إملاءً سياسياً بلغة مموّهة، ومن وجهة نظرنا، فإنه لا يبدو أن طهران تسعى إلى اتفاق مستقر بقدر ما تسعى إلى ترويض القوى الدولية تدريجياً على واقع مهدِّد، ثم فرضه كأمر واقع بطيء ومنهجي. وهذه نقطة تحول خطيرة في هندسة العلاقات الدولية حول الأمن النووي”.

المحلل السياسي، راشد الصباغ، الباحث في السياسات الإيرانية الإقليمية، قال لـ”إرم نيوز” إن الملف النووي بالنسبة لإيران هو تعبير واضح عن بنية ذهنية راسخة داخل النظام، تنظر إلى أدوات القوة باعتبارها امتداداً مباشراً لاحتكار القرار. لذلك، فإن كل خطوة تصعيدية في هذا الملف ترتبط مباشرة بإعادة ترتيب الداخل، أكثر مما تعبّر عن رؤية استراتيجية متماسكة تجاه الخارج، وفق تعبيره. وزاد بالقول “عندما تتراجع مشروعية الدولة داخلياً، وتتعثر قدرتها على تقديم نموذج اقتصادي أو اجتماعي قابل للحياة، لا يبقى أمامها سوى تصدير التوتر، والملف النووي هو الحقل المثالي لهذه الوظيفة”.

واعتبر الصباغ أن المشكلة تكمن في طبيعة استخدام البرنامج النووي من قبل النظام الإيراني كأداة ترويع ناعم في الإقليم. وتابع “لم يعد سرّاً أن إيران لا تفصل بين سياساتها الإقليمية وقدراتها النووية، بل تعتمد على العلاقة العضوية بينهما، كأنما التمدد الخارجي صار ضرورة داخلية لتثبيت التماسك السلطوي؛ وهذا ما يجعل من البرنامج النووي، حتى ولو بقي تحت العتبة العسكرية، جزءاً من بيئة تهديد هيكلي تبدأ من العراق ولا تنتهي في اليمن أو لبنان”.

وزاد بالقول، إن “السلوك الإيراني يدل على منظومة حكم تبحث عن توازن هشّ في الخارج كي تبرر قبضتها في الداخل، ومن ثم فإن المعضلة لا تتعلق بإيران ككيان سياسي، وإنما بالنظام القائم الذي يدير أدوات الصراع من دون أفق حقيقي للحل، ويراكم الأزمات ليديرها فقط دون أن يعالجها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى