انقسام وفراغ.. اشتباكات حماس والميليشيات تعيد رسم خريطة الحكم في غزة

تُظهر المواجهات الأخيرة في قطاع غزة بين حركة حماس وعدد من الميليشيات والعشائر المسلّحة، حلقة جديدة في سلسلة صراعات داخلية لم تنقطع منذ سيطرة الحركة على القطاع عام 2007.
هذا الاقتتال، الذي اندلع مجدداً بعد وقف إطلاق النار الأخير، يمكن قراءته كمؤشر عميقٍ على تآكل التماسك الداخلي في واقعٍ تتداخل فيه تبعات الحرب مع تراجع الروابط بين الناس.
منذ اللحظة التي أحكمت فيها الحركة قبضتها على غزة إثر صراعها مع حركة فتح قبل نحو عقدين، لم يخرج القطاع من معادلة الحكم عبر السيطرة الأمنية الكاملة، فالمواجهات الأولى بين الفصيلين عامي 2006 و2007 لم تكن مجرد نزاعٍ على النفوذ فقط، وإنما كانت ركيزة تأسيس لبنية حكم جديدة قائمة على الإقصاء. ومع مرور السنوات، أخذت هذه البنية تُعيد إنتاج نفسها، فكلما تراجعت الضغوط الخارجية، برزت الصراعات الداخلية بوصفها الميدان الأوضح لاختبار القوة والنفوذ.
لكن المشهد الراهن في غزة يتجاوز الانطباع السائد عن كونه مجرّد مواجهة بين طرفٍ حاكمٍ ومجموعاتٍ متمرّدة، فالصدامات الأخيرة أعادت تعريف موازين القوة داخل القطاع، وكشفت عن تحوّلٍ نوعي في طبيعة الخصومة الداخلية. لم تعد المعارك بين فصيلين سياسيين متنافسين كما كان الحال في منتصف العقد الأول بعد الانقسام، إنما باتت بين سلطة أمنية كانت تحكم غزة وتحاول إعادة فرض قبضتها بعد الحرب، وبين تشكيلاتٍ محليةٍ آخذة في التمدد خارج الأطر التنظيمية التقليدية.
تتقدّم في المشهد اليوم مجموعات مسلحة تنتمي جزئياً إلى بنية العشائر الكبرى، وجزئياً إلى ما يشبه الميليشيات المستقلة التي ترى في نفسها حارساً للأحياء والمخيمات، لا ذراعاً سياسية لأي جهة. بعضها يتحرّك بدافع حماية النفوذ المحلي في وجه تمدد سلطة حماس، وبعضها الآخر يتبنّى خطاباً يقوم على حماية المدنيين في مواجهة ما يُنظر إليه كاستعمال مفرط للقوة.
ويُضاف إلى ذلك ما عُرف مؤخراً بـ”الجيش الشعبي”، وهو تشكيل يضم مقاتلين سابقين وأفراداً فقدوا مواقعهم في فصائل سابقة، يحاول فرض حضورٍ رمزي أكثر منه عسكري فعلي، لكنه يعكس حالة التململ المتزايد داخل البنية الاجتماعية تجاه القرار الأمني لـ”حماس”.
إلى جانبه، ظهرت مجموعات عشائرية تمتلك سلاحاً متوارثاً وتاريخاً من الصدام مع القوى الأمنية، أبرزها عشيرتا الدغموش والمُجيدة، اللتان خاضتا معارك متقطعة مع قوات “حماس” خلال الأشهر الماضية، في مشهدٍ عكس اتساع الهوّة بين البنية التقليدية للمجتمع والغلاف العسكري للحركة.
هذه المجموعات لا تنتمي إلى أيديولوجيا سياسية واضحة، لكنها تعبّر عن نزعة محلية متزايدة لرفض الهيمنة المطلقة، وعن رغبة في إعادة توزيع القوة على مستوى القاعدة الاجتماعية.
هذا التنوّع في الفاعلين المسلّحين يكشف تصدّعاً اجتماعياً متدرجاً في غزة، فالقوة باتت تُوزّع اليوم وفق الولاءات الأهلية والجغرافية أكثر من ارتباطها بأي مشروع وطني أو تنظيمي.
يوحي الوضع الميداني الآن بمرحلة “إعادة تموضع” داخلية؛ فحماس، بعد وقف إطلاق النار الأخير، تسعى لإعادة ترتيب وضعها الميداني، لكنها تواجه لأول مرة مقاومة محلية لا تتقيد بانضباط تنظيمي، ولا تخضع لتوازنات ما قبل الحرب.
أما الميليشيات والعشائر المسلحة، فهي تدرك أن استمرار التوتر يمنحها مساحة أوسع للنفوذ، فتتعامل مع الوضع بوصفه فرصة لإعادة توزيع الخريطة الأمنية والاجتماعية في القطاع.
مصدر سياسي فلسطيني، تحدث لـ”إرم نيوز” كاشفاً عن وجود مداولات بين واشنطن وعدد من العواصم الإقليمية تدور حول إعادة تعريف الوضع في غزة ومآلات الأوضاع الأمنية في القطاع، ليس بهدف إسقاط حماس عسكرياً، لكن لفكّ قبضتها الإدارية والأمنية تدريجياً عبر ترتيبات ميدانية واقتصادية طويلة المدى.
وأوضح المصدر أن الولايات المتحدة نقلت عبر قنوات دبلوماسية، أن الاقتتال الداخلي الحالي يعزز قناعة واشنطن بضرورة منع إعادة تمركز حماس كقوة حاكمة بعد الحرب، مع التأكيد في الوقت نفسه على رفض أي فراغ أمني قد يفتح الباب أمام فوضى جديدة أو تدخّل إسرائيلي مباشر.
وأشار إلى أن الخط العام في النقاش الأمريكي–الإقليمي يقوم على فكرة “إدارة غزة لا حكمها”، أي وضع ترتيبات انتقالية مدنية واقتصادية بإشراف عربي ودولي، لافتًا إلى وجود نقاشات جارية داخل الأطر الفلسطينية تدور حول كيفية إدارة مرحلة ما بعد الحرب بطريقة تمنع احتكار القرار في يد جهة واحدة، كما أن هناك اتجاهات جادة لإعادة توزيع الصلاحيات الأمنية والإدارية داخل القطاع عبر ترتيبات داخلية يجري التفاوض عليها بهدوء.
وأوضح أن مواقف الولايات المتحدة والدول الإقليمية من حماس لم تتغيّر نتيجة الاشتباكات الأخيرة، لكنها ازدادت وضوحاً حيال ضرورة ضبط نفوذ حركة حماس داخل غزة، بعد أن أصبحت السيطرة الأمنية والسياسية متركزة في يدها منذ سنوات.
وقال المصدر إن واشنطن ترى أن الوضع في غزة يستدعي معالجة طويلة المدى، لا تتعلق بما يجري ميدانياً في الأيام الأخيرة، وإنما بكيفية منع عودة نموذج السلطة الأحادية الذي عطّل المسار السياسي الفلسطيني منذ 2007.
وأوضح أن العواصم العربية والغربية لا تتحدث حالياً عن “إسقاط مباشر وسريع لحماس”، بل عن تحويل دورها من سلطة إلى فاعل سياسي محدود التأثير، وذلك من خلال ضبط الموارد والحد من تحكمها بالمساعدات والإدارة المدنية.
ترتيبات داخلية تحت المراقبة الإقليمية
وحول الداخل الفلسطيني، قال المصدر إن هناك إدراكاً عاماً بأن أي تغيير في غزة لن يأتي بقرار من رام الله أو من الخارج، بل من تغيّر ميزان القوة الاجتماعي والاقتصادي داخل القطاع نفسه.
ولذلك يجري الحديث في الكواليس عن دعم شخصيات مدنية مهنية لتولي ملفات محددة (الإعمار، والخدمات، والصحة) بعيداً عن الهيمنة الفصائلية.
ولفت أن ما يجري حالياً ليس انتقالاً سياسياً منظماً ولا بداية انهيار فوري لسيطرة حماس، لكنها مرحلة تحوّل بطيء ومدروس تراقبها الأطراف الإقليمية عن كثب. ووفق تقديره، الهدف الحالي هو احتواء حماس، في انتظار لحظة سياسية أوسع يمكن من خلالها إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني ككل.
كما أوضح أن أطرافاً من النخب السياسية الفلسطينية، تبحث في تصوّر لمرحلة انتقالية داخل القطاع، بحيث لا تكون حماس الجهة الحصرية في إدارة الشؤون الأمنية، وإنما يتم إنشاء جسم مدني محلي بإشراف شخصيات مقبولة مجتمعياً.
كذلك كشف المصدر أن تقديرات إقليمية متقاطعة ترى أن الاقتتال الداخلي الأخير يمنح فرصة لفرض “مرحلة انتقالية واقعية” داخل غزة، يُعاد خلالها ترتيب شبكة القوى الاقتصادية والإغاثية، تمهيداً لإضعاف مركز القرار الأحادي من دون إعلان مواجهة سياسية مباشرة.
وأضاف أن العواصم الإقليمية، تتعامل مع الوضع من زاويتين: الأولى أمنية تتعلق بمنع تسرب الفوضى إلى حدودها، والثانية سياسية تتعلق بضرورة إنهاء نموذج “السلطة المسلحة المنفردة”، مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. لذلك، يجري الحديث عن مقاربة “تجفيف الموارد” أي احتواء الحركة عبر وقف قنوات تمويلها الرئيسية وإحلال إدارات مدنية جزئية مكانها.
وختم المصدر بالتأكيد أن كل هذه النقاشات تدور حتى الآن في مستوى “التهيئة الهادئة”، لأن الأولوية لدى جميع الفاعلين هي منع انهيار غزة من الداخل.
انحسار قبضة الحركة
المحلل السياسي، عماد المصري، قال خلال حديث لـ”إرم نيوز” إن الاقتتال الحالي في غزة يُمثّل نقطة تحوّل في العلاقة بين حماس والمجتمع الغزّي. وأضاف: “نحن أمام تفكك تدريجي للسيطرة المركزية التي بنتها حماس على مدى عقدين. فكل مواجهة داخلية اليوم تضعف قدرة الحركة على إدارة المشهد، وهذا بحد ذاته بداية انهيار النموذج الأمني المغلق الذي حكم القطاع طوال السنوات الماضية”.
وتابع أن “تأثير هذه المواجهات يتجاوز الخسائر البشرية. إنها تضرب ما تبقى من ثقة مجتمعية بحماس، وتعيد إلى السطح أسئلة غابت منذ سنوات حول من يملك القرار ومن يحمي الناس فعلاً”.
كما لفت إلى أن استمرار الاقتتال، سيؤدي إلى فقدان قدرة حماس على استمرار حضورها في القطاع حتى لو احتفظت بالسلاح. “السيطرة تُقاس بمدى استعداد الناس للقبول بالسلطة، واليوم يتآكل هذا القبول بسرعة”.
واعتبر أن “إنهاء دور حماس لا يعني استبدالها بفصيلٍ آخر، فالمطلوب انتقال سياسي حقيقي، حتى لو كان تدريجياً، يبدأ بمرحلة إدارة مدنية تشرف عليها شخصيات وطنية، وتعمل على تفكيك الأجهزة الأمنية المسلحة وإعادة دمجها ضمن هيكل وطني موحّد”.
وأشار إلى أن “استمرار الاقتتال يعني استمرار انهيار المجتمع. لذلك يجب التوقف عن النظر إلى الصراع بمنطق المنتصر والمهزوم، فالمطلوب الآن مبادرة وطنية داخلية توقف القتال وتعيد للغزيين شعورهم بأن هناك من يتحدث باسمهم”.
وتابع: “العشائر جزء من النسيج الاجتماعي، ويمكن أن تلعب دوراً مؤقتاً في التهدئة، شرط ألا تتحول إلى سلطة موازية. غزة تحتاج إلى صيغة مدنية انتقالية”.
ما يجري في غزة اليوم هو أخطر اختبار تواجهه بنية السلطة التي أقامتها حماس منذ عام 2007. فالسلاح الذي وُصف يوماً بأنه أداة حماية، تحوّل إلى عبء يهدد المجتمع نفسه. والقبضة الأمنية التي استُخدمت لضمان السيطرة لم تعد قادرة على حفظ الأمن، بل أصبحت جزءاً من الفوضى التي تخشاها الحركة.
الاقتتال الأخير كشف أن فكرة “الضبط بالقوة” تفقد معناها كلما ازداد المجتمع احتقاناً. ومع كل جولة قتال جديدة، تتآكل ثقة الناس وتضعف قدرة أي طرف على الادعاء بأنه يمثّل غزة أو يحميها.
في الواقع، فإن الاقتتال لا يهدد حماس وحدها، إنما يهدد أيضاً مفهوم الحكم في القطاع كله. وما بعد هذه المواجهات لن يكون كما قبلها، فغزة تقترب من لحظة حاسمة تفرض على الجميع.
تاريخياً، كانت حماس تَعتبر أي بروز لمجموعات مسلّحة خارج إطارها تهديداً مباشراً لبنيتها الأمنية، وقد خاضت في العقدين الماضيين مواجهات متكررة مع جماعات سلفية، وصولاً إلى اشتباكات محدودة مع الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية. غير أن السمة المميزة للمرحلة الحالية تكمن في أنّ الصراع لم يعد بين فصائل ذات مشروع سياسي، إنما مع قوى محلية تبحث عن مكانٍ في معادلة ما بعد الحرب.
في هذا السياق، يتضح أن الاقتتال الأخير هو انعكاسٌ لتناقضاتٍ أعمق تتمحور حول أزمة التمثيل، وانهيار الثقة بين المركز والمحيط في ظلّ استمرار انغلاق الأفق السياسي.