الأخبار العربية

هل سينفجر برميل بارود سيناء؟ قراءة في التحولات الإقليمية

هلا نيوز

كتبت د. ميساء المصري – ما بين الطائرات التي تُقلع من مدارج سيناء، والضربات الجوية التي تهدم غزة، والتقارير التي تتحدث عن تخزين صواريخ تحت الأرض المصرية، لا تزال الشرارة الكبرى مؤجلة… لكن كل ما حولنا يدل على أن برميل البارود في سيناء على وشك الانفجار — لكن كيف ومتى ولصالح من؟

أستطيع أن أقول بثقة: ما يجري اليوم ليس تصعيدًا عابرًا على حدود غزة وسيناء، بل لحظة مفصلية. عنوانها الحقيقي ليس «تهدئة» أو «حرب»، بل إعادة رسم المنطقة من جديد — بأدوات مكشوفة وخطط دفينة، وأثمان قد تدفعها عواصم كبرى قبل أن تصل النار إلى مشارفها.

في عمق رمال سيناء، تُبنى مدارج لطائرات لم تُستخدم بعد، وتُجهّز منشآت تحت الأرض لا تصلح لتخزين قمح أو دواء، بل لما هو أثقل: صواريخ وأسلحة استراتيجية. وحدات نخبة تُنقل بهدوء، رادارات تُنصب في صمت، وتُهيّأ الأرض لشيء أكثر من مجرد تحصين حدود. والكيان الإسرائيلي، رغم انشغاله بغزة، يقرأ هذا المشهد بقلق بالغ ويعتبره خرقًا جوهريًا لنصوص كامب ديفيد، مهما حاولت القاهرة تبريره تحت غطاء «الأمن القومي» و«منع التهريب».

السؤال الأعمق: هل مصر لم تعد تقبل بدور «الحارس الصامت» أو استخدام حدودها كصمام أمان لدولة توسعية تسعى لتفريغ غزة ودفن قضايا ديموغرافية على عتبات سيناء؟ وهل الصراع الحالي هو صراع على الدور والمكانة لا على المعبر والمعسكر؟

إسرائيل تدرك أن الحرب في غزة لن تبقى هناك؛ ومن يتحكم في «وجهة اللاجئين» يملك ورقة سيادية كبرى. لذلك، تدفع نحو تفكيك القضية الفلسطينية ديموغرافيًا وسياسيًا وجغرافيًا — لا عبر التفاوض بل عبر التهجير القسري، مع تهيئة الرأي العام الدولي لقبول هذا السيناريو كـ«حل إنساني مؤقت». القاهرة ترفض هذه الفرضية جملة وتفصيلًا، لكنها تواجه معادلة معقدة: بين الشارع الغاضب داخليًا والضغط الغربي خارجيًا، وبين التهديد العسكري على الحدود والمقايضة الاقتصادية في ملف الغاز.

الأمر لم يعد مواجهة تقليدية بين خصمين تاريخيين. هناك مشروع لإعادة ترتيب الإقليم، تقوده إسرائيل بتخطيط عميق وتواطؤات إقليمية وتغاضٍ دولي، بينما تشتغل الولايات المتحدة على ملفات أخرى فتتراجع شهية واشنطن للتورط المباشر. وفي هذا السياق تظهر مؤشرات غير تقليدية: تعاون عسكري غير مُعلن بين مصر وتركيا، تقارير عن تنسيق لوجستي مع باكستان، وتحركات خليجية تشير إلى تشكل توازن إقليمي جديد لا يَستند إلى المحاور التقليدية بل إلى إدراك أن مواجهة الهيمنة الإسرائيلية تتطلب تكتيك ردع إقليمي مغاير.

لكن ثمة معضلة فنية واستراتيجية: أغلب منظومات التسليح في المنطقة تُدار بشفرات وقيود استخدام أميركية (End-Use Restrictions)، ما يعني أن أي تحالف جديد لا يحتاج إلى الإرادة فقط بل إلى قدرة على الاستقلال التكنولوجي والسيادي — وهي معركة حاسمة لم تُحل بعد.

في إسرائيل نفسها صدى داخلي حول «سيناريو سيناء»: احتمال مواجهة مع مصر إذا طالت العمليات العسكرية قيادة حماس على الأراضي المصرية. استهداف كهذا قد يصبح لحظة انفجار ذات دلالة رمزية وسياسية، ومصر حذرت بوضوح: استهداف قادة المقاومة على أراضينا سيفتح أبواب جحيم. لغة التحذير تبدو دبلوماسية لكنها رسالة استراتيجية مشفرة: المعادلة تتغير، والرد لم يعد مستبعدًا — لكن ما مدى وشكل هذا الرد؟

داخليًا، تعيد مجازر غزة إلى الأذهان سرديات تاريخية، وبدأت أصوات في النخبة المصرية تطالب بمراجعة اتفاقيات مثل كامب ديفيد — لا بالضرورة إلغاؤها، لكن بإعادة صياغة شروطها الأمنية لتتماشى مع المتغيرات الراهنة. السؤال الأصعب: هل تستطيع القاهرة تحمل كلفة هذا التغيير في ظل أزمة اقتصادية وعلاقات مالية معقدة مع مؤسسات دولية؟ أي خطوة استراتيجية كبيرة تحتاج إلى غطاء إقليمي وتوافق داخلي، كما تحتم موازنة حسابات استضافة قيادات أو تحولات في موقف القاهرة تجاه الفصائل الفلسطينية.

من جانبها، إسرائيل تفكر الآن بطريقة مختلفة؛ تحتاج إلى رد سريع على التقارب المصري-التركي، والدعم الفرنسي لفكرة قوات دولية في غزة، وزيادة الاعترافات الغربية بدولة فلسطينية. هذه التحولات قد تسهم في انهيار تدريجي لمسار «الملف الفلسطيني» التقليدي. الرسالة الإسرائيلية واضحة: لا تهدئة من دون قواعد جديدة للعبة تُكرّس إسرائيل قوة ضابطة للإقليم وتقصي من يعارض رؤيتها — ومن لا يقبل هذا الإطار سيُدفع إلى الهامش أو المواجهة.

نحن لا نعيش حربًا مفتوحة فحسب، بل مرحلة انتقالية تستخدم أدوات صلبة وناعمة معًا. الهدف لم يعد غزة فقط، بل إعادة كتابة خريطة الشرق الأوسط. والنتيجة محصورة بين احتمالين: ولادة معادلة توازن تحفظ للدول أدوارها، أو انزلاق شامل نحو شرق أوسط تُعاد كتابته بيد واحدة. الهدوء التقليدي مات؛ وما يجري تفكيك ناعم يتجه إلى صلب ترتيبات إقليمية استمرت عقودًا، لتُصاغ بدائل جديدة على أنقاضها.

يبقى السؤال: هل هذه اللحظة ستدفع إلى تغيير الكراسي أم أنها تمهيد لمعادلات أشد شراسة وتعقيدًا؟ الإجابة قيد التشكّل — وقد تُكتب في الرمال أو تُحفر بالصواريخ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى