تكنولوجيا

كيف تعيد تقنيات الذكاء الاصطناعي صياغة خدمات القطاع المالي؟

لم تعد تقنيات الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تسويقية، بل تحولت إلى قاعدة البنية التحتية لأعمال المؤسسات المالية التي توظفه لتحقيق مزايا تنافسية حقيقية، هذا ما أجمع عليه خبراء الصناعة مؤكدين أن القطاع بات في مرحلة إثبات القيمة الفعلية المضافة لهذه التقنيات.

يرى محمد العواد، مؤسس شركة (Ai Brains)، أن المنطقة العربية بحاجة إلى الاستثمار المكثف في البنية التحتية التقنية، وتأسيس كوادر متخصصة، وتبني سياسات إنتاجية، ففي خضم موجة التحول الرقمي التي تجتاح القطاع المالي العالمي، تزداد الحاجة لأن تستفيد المؤسسات المالية العربية من هذه الفرص القياسية، عبر بناء الشراكات التقنية، وتطوير الكفاءات الوطنية، وتعزيز القدرة التنافسية الإقليمية، بما يضمن مستقبلاً مصرفياً أكثر استدامة وابتكاراً.

أحدث أبحاث شركة (Cornerstone Advisors) التي كشف عنها الخبير «سام كيلمر» خلال مؤتمر (FinovateFall 2025) في نيويورك الأسبوع المنصرم تشير إلى أن «ما بين 30% إلى 35% من البنوك والاتحادات الائتمانية في الولايات المتحدة لديها بالفعل شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي التوليدي»، ما يؤكد أن التبني أصبح حقيقة ملموسة تنتشر عبر المؤسسات المالية بمختلف أحجامها.

ومع ذلك، لا يزال القطاع في مراحله الأولى، وهو ما شبهه «فريد كامبل» من (TRAC.vc) بعام 1995 بالنسبة لشبكة الإنترنت، متوقعاً أن يكون تأثير الذكاء الاصطناعي «أكثر ثورية»، وهو ما يفرض على القادة الماليين ضرورة التفكير بعمق في كيفية الاستفادة منه لتوليد الإيرادات وخفض التكاليف التشغيلية بفعالية.

الانتقال من مرحلة التجارب الأولية إلى التنفيذ المؤسسي الفعال يضع المؤسسات المالية أمام مفترق طرق استراتيجي يتمثل في الاختيار بين بناء أنظمتها الخاصة أو شراء حلول جاهزة عبر الشراكة مع شركات  (FinTech). وكما أوضحت «شيري وو» من (University of Michigan Credit Union)، فإن المؤسسات الأصغر حجماً غالباً ما تفتقر للموارد اللازمة للبناء الداخلي، ما يجعل الشراكات خياراً استراتيجياً، شريطة أن تكون قائمة على التعاون والتخصيص لتلبية احتياجات العملاء بدقة.

وفيما يخص الجاهزية الرقابية، يرى العواد أن تسريع التشريعات وتنظيم نماذج الذكاء الاصطناعي التوضيحي (XAI) بات حاجة ملحة، خاصة أن 41% من المؤسسات العالمية تطالب برفع الشفافية وحماية بيانات العملاء، ونسبة الاستثمار في (XAI) ارتفعت عالمياً إلى 39% هذا العام. مؤكداً أن الموازنة بين الابتكار التقني والإشراف البشري ضرورة استراتيجية.

وينبع هذا التوجه من إدراك متزايد بأن تحقيق نتائج منهجية وملموسة يتطلب خبرة متخصصة. على سبيل المثال، أشار «عساف باسيو» من شركة (Persado)، إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل صحيح في تخصيص التواصل مع العملاء يمكن أن «يزيد من معدل التحويل بنسبة 31% تقريباً»، سواء كان ذلك لبطاقات الائتمان أم للقروض.

كما تتجلى القيمة العملية في تعزيز الكفاءة التشغيلية، حيث استشهد «فريد كامبل» بمثال واقعي من قطاع الاستثمار، موضحاً أن شركته قادرة على تنفيذ 12 استثماراً لكل موظف بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ2.5 استثمار لدى أقرب المنافسين، وهو ما يترجم مباشرة إلى هيكل تكاليف أقل وقدرة أكبر على النمو المستدام دون الحاجة إلى زيادة كبيرة في عدد الموظفين.

أوضحت دراسات حديثة أن 49% من البنوك الأميركية اعتمدت الذكاء الاصطناعي في تقييم المخاطر و80% من حلول كشف الاحتيال نجحت في تقليل الأخطاء بنفس النسبة في المؤسسات الكبرى.

فمع نضوج تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا تقتصر التحديات على كيفية استخدام التقنية داخلياً، بل تمتد إلى كيفية التعامل مع التهديدات الجديدة والاستعداد لثورة في سلوك العملاء.

أحد أبرز هذه التحديات هو «الاحتيال المالي المدعوم بالذكاء الاصطناعي»، والذي حذر منه كامبل بشدة، مؤكداً «أن الطريقة الوحيدة لاكتشافه هي باستخدامه»، ما يعني أن تبني أنظمة كشف احتيال متطورة لم يعد خياراً بل ضرورة حتمية لحماية أصول البنوك وعملائها. لكن التحول الأعمق الذي ينتظر القطاع، كما لفت إليه «باسيو»، هو بزوغ عصر «وكلاء الذكاء الاصطناعي» الخاص بالعملاء أنفسهم.

هذا التطور سيغير نموذج الأعمال المصرفي من أساسه، حيث ستتحول البنوك من تقديم مباشرة إلى الأفراد، إلى التفاعل والتفاوض مع برامج ذكاء اصطناعي متطورة تدير الشؤون المالية لعملائها. لذا، فإن المؤسسات التي ستنجح في المستقبل ليست فقط تلك التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين عملياتها الحالية، بل تلك التي تبني استراتيجيات مرنة ومبتكرة للازدهار في اقتصاد جديد يديره وكلاء الذكاء الاصطناعي، موازنة بين الابتكار التقني والإشراف البشري الحكيم.

وبحسب محمد العواد، مؤسس شركة (Ai Brains)، فإن مكافحة الاحتيال وتقييم المخاطر وأتمتة خدمة العملاء من أكثر حالات الاستخدام إلحاحاً في المنطقة العربية، إذ تميل حالياً إلى الشراكات التقنية العابرة للحدود بنسبة مرتفعة، مع توجه مستقبلي نحو بناء فرق داخلية إذا توافرت رؤى واضحة.

لفهم عمق تأثير  يقسم عواد التقنيات الأساسية التي باتت تشكل عصب القطاع المالي الحديث إلى 3 نقاط:

  • «تعلم الآلة» (Machine Learning)، التي تُمكّن الأنظمة من تحليل كميات هائلة من البيانات التاريخية، مثل سجلات المعاملات، لتحديد الأنماط والتنبؤ بالنتائج المستقبلية، وهو ما يُستخدم بكثافة في تقييم مخاطر الائتمان والموافقة على القروض بشكل أسرع وأدق.
  • تليها تقنية «معالجة اللغات الطبيعية» (NLP)، التي تسمح للآلات بفهم اللغة البشرية وتحليلها، وهو ما يتجلى في روبوتات الدردشة (Chatbots) التي تقدم خدمة عملاء فورية على مدار الساعة، وتحلل شكاوى العملاء لتحديد المشكلات المتكررة.
  • أما النقطة الثالثة، فتكمن في التقنية الأحدث والأكثر ثورية «الذكاء الاصطناعي التوليدي» (Generative AI)، القادرة على إنشاء محتوى جديد كلياً، من نصوص ورسائل تسويقية مخصصة لكل عميل على حدة، إلى تقارير مالية معقدة، ما يفتح آفاقاً غير مسبوقة في التخصيص والكفاءة.

على سبيل المثال، تُعد «تابي» من أبرز شركات التكنولوجيا المالية في المنطقة في قطاع «اشترِ الآن وادفع لاحقاً»، إذ يعتمد نظام (BNPL) على اتخاذ قرارات سريعة ودقيقة، وهنا يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في عمليتي مكافحة الاحتيال والتقييم الائتماني.

عندما يتقدم مستخدم جديد بطلب للاستفادة من خدمة «تابي» عند نقطة الدفع في متجر إلكتروني، تعمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تحليل مئات نقاط البيانات في أجزاء من الثانية لاتخاذ قرار بمنع المحتالين بشكل استباقي وفوري، بدلاً من الاعتماد على مراجعة يدوية بطيئة، ما يحمي «تابي» والمتاجر الشريكة من الخسائر المالية.

ولأن الأخيرة لا تعتمد فقط على تقارير الائتمان التقليدية من مكاتب الاستعلام الائتماني مثل «سمة» في السعودية أو «الاتحاد للمعلومات الائتمانية» في الإمارات، بل تبني نموذجاً خاصاً للتقييم الائتماني باستخدام الذكاء الاصطناعي تمكّن «تابي» من خدمة شريحة واسعة من العملاء، بما في ذلك الشباب أو الذين ليس لديهم تاريخ ائتماني طويل، وهو أمر صعب التحقيق عبر نماذج التقييم التقليدية، ما يساهم بشكل مباشر في تعزيز الشمول المالي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى