اقتصاد

فوسفات تونس.. «كنز معطل» في معركة إنقاذ الاقتصاد

منذ عقود، كان الفوسفات الذي يعرف بـ«الذهب الأبيض» أحد أعمدة الاقتصاد التونسي ومحركاً رئيساً للنمو ومصدراً أساسياً للعملة الصعبة، لكن تراجع الإنتاج وتعثر الاستثمارات أضعفا موقع البلاد في السوق العالمية.

وحتى عام 2010، كانت تونس في طليعة الدول المنتجة والمصدرة لهذه المادة على مستوى العالم، وتتمتع بموقع استراتيجي في أسواق الأسمدة العالمية، وسط تحركات حكومية لاستعادة مكانة البلاد كأحد أبرز منتجي الفوسفات ومخاوف من أن يظل هذا المورد الاستراتيجي رهين الأزمات.

وتُظهر الأرقام الرسمية حجم الأزمة في قطاع الفوسفات التونسي فقد انخفض الإنتاج السنوي للفوسفات من 8.131 مليون طن عام 2011 إلى 2.911 مليون طن عام 2023، وهي نسبة انخفاض تفوق 60% في أقل من عقدين.

ورغم الجهود المبذولة، لم يسجل الإنتاج تحسناً كبيراً، حيث وصل إلى 3.03 مليون طن في عام 2024، بينما تسعى الدولة إلى الوصول إلى إنتاج 5 ملايين طن في العام الحالي، وفقاً لبيانات صادرة عن شركة «فوسفات قفصة» المملوكة للدولة في يناير 2025.

وفي هذا السياق، يوضح الخبير في الموارد الطبيعية حسين الرحيلي أن تونس تراجعت من المرتبة الخامسة عالمياً عام 2010 إلى المرتبة العاشرة عام 2023، وذلك وفقاً لتقارير هيئة المسح الجيولوجي الأميركي.

وحسب الرحيلي فإن هذا التراجع ليس مجرد رقم، بل هو مؤشر على أن تونس لم تعد لاعباً رئيساً في سوق الأسمدة العالمية، مما يقلل من قدرتها على التأثير في الأسعار والتفاوض.

وعلى الرغم من أن تونس تمتلك ثروة طبيعية هائلة من الفوسفات تصل إلى 2.5 مليار طن، مما يضعها في المرتبة الرابعة عالمياً من حيث الاحتياطات بحسب «وورلد ببيوليشن ريفيو» (World Population Review)، فإن هذه الثروة الكامنة لا تترجم إلى إيرادات فعلية.

تشكل صناعة الفوسفات ركيزة مهمة في الاقتصاد التونسي، إذ تساهم بنحو 10% من إجمالي عائدات الصادرات.

ورغم تراجع الإنتاج، ارتفعت صادرات تونس من الفوسفات في عام 2023 بنسبة 37% لتصل إلى نحو 2.4 مليار دينار تونسي (833 مليون دولار)، مقارنة بما يزيد على 1.8 مليار دينار في عام 2022، وذلك بفعل ارتفاع الأسعار العالمية.

ويشير أستاذ الاقتصاد بجامعة قرطاج رضا الشكندالي إلى أن إنتاج وتصدير الفوسفات يقدم للبنك المركزي التونسي عوائد هائلة، وهو ما يسهم في تقليص العجز التجاري وتماسك قيمة الدينار، إضافة إلى إسهامه في تراجع معدلات التضخم.

ويضيف الخبير الاقتصادي أن قطاع الفوسفات يُشغِّل الآلاف من العائلات التونسية، خاصة في منطقة الحوض المنجمي القريبة من الحدود الجزائرية، ويعتبر المصدر الوحيد لتشغيل الشباب في تلك المنطقة، لا سيما أنها منطقة نائية تعاني من ضعف البنية التحتية.

ووفق الشكندالي فإن من أسباب تراجع هذا القطاع هو غياب رؤية استراتيجية واضحة من قبل الحكومات المتعاقبة، مما أدى إلى أزمة ثقة بين الدولة والمجتمع المحلي.

فيما يسلط حسين الرحيلي الضوء على الأسباب الرئيسة للتراجع، والتي يمكن تلخيصها في الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات حيث شهدت المناطق المنتجة للفوسفات موجات متكررة من الاعتصامات والاحتجاجات للمطالبة بفرص عمل وتحقيق التنمية.

وأدت هذه التحركات، التي تعكس إحساس السكان المحليين بالتهميش على الرغم من أنهم يعيشون فوق ثروة وطنية هائلة، إلى توقف عمليات الإنتاج والنقل بشكل متكرر، مما كبد شركة فوسفات قفصة، خسائر مالية فادحة.

ويضيف الرحيلي سبباً آخر وهو المشكلات اللوجستية فقد أدى الاعتماد شبه الكامل على خطوط السكك الحديدية لنقل الفوسفات إلى مصانع التحويل والموانئ إلى أن تصبح هذه الخطوط نقطة ضعف رئيسة، وهو ما أثر على تدفق المواد الخام إلى المصانع وإلى الأسواق العالمية.

وأخيراً يشير الرحيلي إلى أن تراجع الإيرادات وعدم الاستقرار أدى إلى تجميد خطط الاستثمار في تحديث المعدات والآلات، الأمر الذي انعكس سلباً على كفاءة الإنتاج وزاد من تكاليفه، وجعل القطاع متأخراً عن التطورات التكنولوجية العالمية.

رغم التحديات السابقة، لا يزال الفوسفات يمثل فرصة ذهبية لإحياء الاقتصاد التونسي، خاصة في ظل الطلب العالمي المتزايد على الأسمدة لتلبية احتياجات الأمن الغذائي.

ويرى الشكندالي أن تحقيق ذلك يتطلب استراتيجية شاملة والعمل على استقرار البيئة الاجتماعية في مناطق مناجم الفوسفات، التي شهدت اضطرابات ناتجة عن البطالة وضعف التنمية.

وباعتقاده فإن الحل يكمن في إدماج هذه المناطق في الخطط الوطنية للتنمية، واستثمار جزء من إيرادات الفوسفات في تحسين البنية التحتية والخدمات العامة.

وأكد ضرورة وضع خطة شاملة لإعادة إحياء القطاع من خلال رصد الاعتمادات المالية اللازمة وتوفير البنية التحتية المطلوبة لتجديد المعدات وتحديث الشبكة الحديدية والموانئ، والتوجه نحو تحقيق القيمة المضافة بحيث لا يقتصر التركيز على تصدير الفوسفات الخام.

كما شدد على ضرورة زيادة إنتاج المنتجات المحوّلة ذات القيمة المضافة الأعلى، مثل «حمض الفوسفوريك» والأسمدة المركبة، باعتبار أن هذا التحول سيزيد عائدات البلاد بشكل كبير، ويفتح أسواقاً جديدة، ويوفر فرص عمل ذات قيمة مضافة أعلى.

من جانبها، شرعت الحكومة التونسية في اتخاذ خطوات عملية لإعادة نسق الإنتاج في قطاع الفوسفات، من خلال استرجاع أسواقها التقليدية في آسيا وأوروبا وأميركا، إلى جانب فتح المجال أمام القطاع الخاص عبر الشركة التونسية لمعالجة المعادن، التي يُقدَّر إنتاجها بنحو 250 ألف طن سنوياً من مناجم بئر العفو بمحافظة الكاف.

وفي الوقت ذاته، ركّزت السلطات على تطوير مشاريع جديدة باستثمارات تفوق نصف مليار دينار، بهدف رفع الطاقة الإنتاجية إلى 8.5 مليون طن سنوياً بحلول عام 2028، وتشمل هذه المشاريع منجماً في أم الخشب، ومغاسل الرديف، إضافة إلى مشروع توزر.

ومن جهتها، خصصت شركة فوسفات قفصة استثمارات تناهز 263 مليون دينار لتجديد المعدات وتعزيز قدرة المغاسل على استخراج كميات أكبر، في وقت تعمل فيه الحكومة على معالجة العراقيل الإدارية والمالية التي تواجه الشركة والمجمع الكيميائي التونسي، من خلال إعادة هيكلة الإدارة وتعيين كفاءات جديدة، مع الاستفادة من الفرص التي تتيحها الأسواق العالمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى