العلم الإسرائيلي في السويداء … لمن ينسب العار؟

مقالات واراء – هلا نيوز اونلاين
راشد عيسى
لا أحد في إمكانه إنكار أو تبرير رفع علم إسرائيلي في مدينة السويداء السورية، ذات الأغلبية الدرزية. والأسوأ أن العلم رُفع أخيراً في ساحة الكرامة في المدينة، حيث خرجت التظاهرات المنددة بالنظام السوري، والمؤيدة لثورة السوريين، على مدى العامين الأخيرين قبل سقوط نظام المخلوع بشار الأسد.
العلم رفعه دروز، وليس الدروز. قلة لا تذكر، وليس الجميع. ناشطون كثر من بينهم تسابقوا لإدانة الفعل المشين الذي لا يمثل المدينة ونضالها.
لكن هؤلاء الذين تسابقوا للإدانة هم على الأرجح ناشطون دروز يقيمون خارج المدينة المكلومة، أولئك الذين في إمكانهم الوصول إلى الشبكة العنكبوتية في الأساس، ولديهم أجهزة هاتفية مشحونة، وكهرباء، وطاقة بدنية وأعصاب تمكّنهم من الكتابة والقول وتحبير البيانات والنداءات، فأهل المدينة ما زالوا إلى اليوم تحت هول المجزرة المرتكبة بحقهم وبحق ذويهم وأحبائهم، يحصون أعداد الضحايا، من قتلى (منظمات حقوقية وناشطون تحدثوا عن أكثر من 2000)، ومفقودين ومخطوفين، وقرى وبيوت محترقة ومنهوبة (36 قرية أحرقت بيوتها وخربت البنى التحتية فيها)،.. مَن يجرؤ، وبالأحرى مَن لديه قلة حياء ليسأل من فَقَدَ أحد ذويه، وربما خسر العدد الأكبر من عائلته، من يجرؤ ليَسأل منكوباً عن رأيه برفع علم الأعداء! فلن يكون الحزينُ المنكوبُ واعياً كفاية ليجيب، وإنْ فَعَلَ فلا بدّ أنه سيصرخ بالغضب والبصاق في وجه العالم.
رَفْعُ ذاك العلم في مدينة عربية لا بدّ أن يستفز ويُحزِن ويثير الغضب، لكن تجاه من؟ البديهي أن يكون السخط تجاه من رفع العلم، تلك القلة القليلة التي تجرأت، وبوجوه سافرة، على فعل ذلك، لا على الضحايا بالجملة. لكن الحاصل أنَّ رَفْعَ العلم سيُلصَق بالمدينة برمتها، بالدروز بالجملة، وسيجد المُتَّهِمون في التاريخ المعاصر ما يكفي من الأمثلة من سوابق الانخراط في الجيش الإسرائيلي، والسياسة الإسرائيلية، والانتماء إلى أحزابها إلى حد المزايدة على عتاة اليمين المتطرف، وصولاً إلى غزة ومشاركة جنود وضباط دروز في الحرب على القطاع. وبالمناسبة، وما دامت اشتباكات السويداء يجري تصويرها على أنها بين عشائر بدو ودروز، فلا يقل فداحة انخراط بدو فلسطين وعشائرها تطوعاً في الجيش الإسرائيلي عن مواطنيهم من دروز وشركس.
«في مديح الدقة الإسرائيلية»
كثر يَطمئنّون إلى ما يسوقه إليهم الإعلام من فيديوهات وصور وهتافات لإسرائيل، فظهور العلم كافٍ لمنحهم راحة ضمير إزاء الجريمة، المجزرة المرتكبة في جبل العرب (أو جبل الدروز بحسب تسمية سابقة): من الآن فصاعداً لن نهتم لكل ما يأتي من هناك، إنهم يرفعون علم الأعداء، وإن لم يرفعوا لماذا صمتوا، لماذا لم ينسحبوا أثناء رفعه في الساحة، لماذا لا يقوم أهل المدينة بسحل هؤلاء في الشوارع إن كانوا معترضين على سلوكهم.. مئة سؤال وسؤال تأخذ المرء، المراقب، إلى راحة بال، تجعله غير مهتم بالحدث، على الأقل. وكأن أهل السويداء يملكون ترف التأمل والتفكير واتخاذ القرار، بل والاستجابة لاستطلاعات حول تأييد العَلَم أو رفضه!
يبدو العلمُ العدوُّ وكأنه منديل ديزدمونة، الذي تقوم عليه حبكة المسرحية الشكسبيرية «عطيل»، إذ بمجرد أن يرى عطيل المنديل الذي أهداه لمعشوقته وزوجته ديزدمونة بيد المخادع الخبيث ياغو سيتثبّت من خيانة زوجته.
المنديل الإسرائيلي تنقّل مراراً في سوريا، فقد استعمله نظام الأسد مراراً، لطالما أشاع أن الأكراد السوريين، شمال البلاد، رفعوه في احتجاجاتهم، وأنهم رفعوا حتى صور أرئيل شارون (رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل)، وإنْ صعب العثور أو توليف صورة للعلم كانوا يلفقون أخبار العثور على أسلحة ومعدات إسرائيلية، وكان ذلك بمثابة العامل المرجِّح في أي نقاش، كان الحجة التي ما بعدها حجة. المعدات الإسرائيلية المزعومة تلك تنقلت بين حمص وإدلب، في سنوات الثورة الأولى خصوصاً، وكان السيناريو مكشوفاً لعموم السوريين المنتفضين.
هناك، في السويداء يبدو أن ذلك حدث بالفعل، ولربما حدث أكثر من ذلك، عندما زار عددٌ من مشايخ الدروز السوريين إسرائيل، بحجة زيارة مقامات دينية، وقد يكون الخافي أعظم، لكن من هم هؤلاء، وكم يمثلون من المدينة التي تضم أكثر من نصف مليون سوري. هل يعطي ذلك الحق في مجزرة تجاه جميع سكان المدينة، واستباحتها، والقتل على الهوية الدينية؟ حتى لو كنت تدخل بالفعل بيت عميل لإسرائيل، هل من حقك قتل عائلته؟ ثم ما الذي يجرحك أكثر ويأخذ اهتمامك، كشريك في الوطن؛ قتل أبرياء أم رفع علم العدو؟ ومن قام برفعه لن يكون هؤلاء الذين قُتلوا مذعورين في بيوتهم بدم بارد.
حساسية البعض الفائقة تجاه علم إسرائيلي في السويداء لم نعهدها منهم (ونؤكد على البعض) طوال أكثر من عقد من تاريخ القصف الإسرائيلي على سوريا، كان ذلك يشيع أجواء كوميدية على مواقع التواصل الاجتماعي. لقد بلغ الأمر حدّ مديح «الدقة الإسرائيلية» في قصف واستهداف مواقع سورية، في وقت كانت إسرائيل قد فعلت كل ما فعلته في غزة (عشرات آلاف الشهداء، مدن وأحياء ممسوحة، عشرات المشافي المقصوفة، تهجير قسري مرات عديدة، تجويع ممنهج، اعتقالات وقتل في السجون،..).
وقلما أثارت ضرورات التعاطي مع إسرائيل (مثل جرحى سوريين عولجوا في مشافيها، أو مرور «الخوذ البيضاء» عبر ممر إسرائيلي إثر حصار أسدي جنوباً)، الجمهور المستثار اليوم.
سوريا أولاً
أما بعد سقوط نظام المخلوع، فقد زاد انعدام الحساسية أيضاً، فنظرية «سوريا أولاً» تستلزم صفر مشاكل مع كل الجيران، حيث الأولوية للكهرباء والماء والخبز وإعادة الإعمار، ومع لقاء الرئيس الانتقالي أحمد الشرع بالرئيس الأمريكي، وإعلان رفع العقوبات عن سوريا، وبدء مفاوضات مع إسرائيل كان سوريون ينظرون إلى رئيسهم كداهية سياسي استطاع أن يطوع الكرة الأرضية برمتها. هنا، لا تساؤل عما يجري في المفاوضات، وإلى أي مدى ستصل. وحتى في التعاطي مع الشأن الفلسطيني ستأتي المواقف والتصريحات، إن وجدت أصلاً، خجولة، تابعة للموقف العربي، السعودي تحديداً.
ذلك العَلَم للاستعمال إذن، كالقضية الفلسطينية نفسها، التي طالما شكّلت ملاذاً وورقة سياسية ضاغطة، خصوصاً من نظام الأسد.
رَفْعُ علم إسرائيل في مدينة عربية عارٌ فعلاً، أذى لأرواحنا جميعاً، لكن لا يجب أن يكون بأي حال مبرراً لارتكاب مجزرة.
سيكون عاراً آخر، فوق عار المجزرة، الدفع بمدينة قدمت ثمناً باهظاً أثناء مواجهة نظام الأسدين، إلى أحضان العدو.