مقالات و آراء

إسرائيل وسرقة الحمير من غزة

مقالات واراء – هلا نيوز اونلاين

سنان انطون

في سيل الأخبار والتقارير والمشاهد المروعة والمؤلمة عن تفشّي المجاعة في غزة، واستمرار مصائد الموت (برعاية ما يسمى «مؤسسة غزة الإنسانية») بقتل الفلسطينيين الباحثين عمّا يسد رمقهم، والقصف الساديّ، يأتي خبر، قد يبدو سرياليا للوهلة الأولى، عن قيام جنود جيش الإبادة بـ «إنقاذ» الحمير من قطاع غزة، وتسليمها إلى Let’s Start Again (فلنبدأ من جديد). وهذه مؤسسة إسرائيلية غير حكومية تمتلك محمية للحيوانات في جنوب تل أبيب، وتتولى نقل الحمير إلى مزارع في فرنسا وبلجيكا «لتنعم بحياة آمنة».
وأظهرت تقارير صحافية مشاهد وصول الحمير إلى المحميّة وبكاء إحدى النساء الإسرائيليات لدى استقبالها وهي تنزل من الشاحنة، ثم تظهر مديرة المحمية شارون كوهين، لتتحدث عن حالة الحمير البائسة والخدوش والجراح، التي تعاني منها بسبب الرسن واللجام والسلاسل التي كانت تقيّدها في غزّة. وكيف وجد الجنود الإسرائيليون الحمير وهي تعاني من جراح «جسدية ونفسية»، وذلك، حسب كوهين، بسبب سوء المعاملة والقسوة. وتضيف «كانت الحمير تحمل الطابوق قبل الحرب، والآن هي تحمل البشر والأثاث. إن حياة الحمير في غزة عبودية ومعاناة حتى الموت. لن تدخل الحمير بعد الآن إلى غزة وسنخرج ما نستطيع إخراجه. وهذه ليست سرقة، بل إنقاذ».

كان يمكن أن تُسْأل هذه الإنسانة عن الحمير التي قتلها القصف المستمر، أو عن حيوانات أخرى نفقت في الشوارع أو تحت الركام، وأخرى تموت جوعاً مثل البشر، أو أن تسأل نفسها لماذا تحمل الحمير الأثاث والبشر أصلاً، ومن المسؤول عن ذلك؟ ويبدو أن هذه المنظمة التي تترأسها هي التي كانت وراء منع إسرائيل من استيراد الحمير إلى غزة في عام 2022، إذ ضغطت على الحكومة، زاعمة أن الحمير تُعذَّب أو أنها تذبح وتباع جلودها إلى الصين عبر مصر. «متلازمة المنقذ الأبيض» White Savior Complex معروفة في الفكر والممارسة الاستعماريين، ونجدها تتكرر في سياقات وحقب مختلفة، لكن تربطها افتراضات راسخة، وأيديولوجيا، وعقيدة تفوّق وإيمان بمهمة حضارية. فمن إنقاذ فئات وشرائح معيّنة («أقليّات» بأنواعها) من أخرى. وتحضر هنا المقولة الشهيرة للمفكّرة الهندية غاياتري سبيفاك، في مقالتها «هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟» عن الرجال البيض الذين ينقذون النساء السمراوات من الرجال السمر. إلى حملات إنقاذ الحيوانات وحمايتها، من دون إنقاذ البشر في المكان ذاته، إلى إنقاذ الطبيعة وحمايتها بقتل، أو بعد قتل، البشر الذين كانوا يعيشون فيها. وكل ذلك بلا موقف نقدي، أو وعي بالديناميكيات الاستعمارية وبالعنف الذي يهيكل «المهمّة» والسياق بأكمله، أو، وهو الأسوأ، بدعم المنظومة بأكملها بوعي كامل وعن قصد.
لم تطلّع السيدة الإسرائيلية على عشرات المشاهد المتناقلة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تظهر عطف الغزيين على الحيوانات، كلما وحيثما استطاعوا وكيف يقتسمون طعامهم، إن وجد، معها. فهي، مثل الغالبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي، لا ترى الفلسطينيين كبشر أصلاً. ولا يظهر الإعلام الإسرائيلي حقيقة ما يحدث في غزّة. في الثامن من أكتوبر قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، «إننا نحارب حيوانات بشرية» إذن، هناك حيوانات يجب أن تحارب تمحق، وأخرى يجب أن تُنقذ. وهناك تراتبية وشروط يجب أن تستوفى لكي تصبح الحيوانات جديرة بالإنقاذ. والشرط الأول، ولعله الوحيد، هو درجة قربها من المُنْقِذ (أي الرجل الأبيض، والأبيض هنا ليست إشارة إلى لون البشرة، بل استعارة لعقيدة التفوّق) ومقدار بعدها عن الآخر. في الحروب التي شنتها إسرائيل على غزّة في العقدين الأخيرين، والتي تخللتها رشقات صاروخية من غزة كان الإسرائيليون، وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية، ينشرون أخباراً وصوراً عن الرعب الذي كان يصيب القطط والكلاب الأليفة في منازل الإسرائيليين، أثناء الرشقات الصاروخية. وينحاز العالم المتحضّر بالطبع إلى تلك الحيوانات ويتعاطف معها. ولم يكن هناك متسع للفلسطينيين، الذين كانوا يقتلون بالمئات من جراء القصف الإسرائيلي، ولا حتى لحيواناتهم الأليفة، ولا للحمير أو الخيول، فهي وهم بعيدون عن الحضارة. إن الهدف الأساسي من سرقة الحمير هو حرمان الغزيّين من آخر وسائل النقل المتاحة، وإفراغ غزة من كل مقومات مواصلة الحياة، مهما كانت بسيطة، وصولاً إلى الحل النهائي، الذي تحدث عنه عشرات السياسيين الإسرائيليين، بإفراغ الأرض وتهجير سكانها واستعمارها.
ذكّرني الخبر بما حدث في العراق أثناء سنوات الاحتلال الأمريكي إذ فعلت متلازمة إنقاذ الحيوانات فعلها، كما كان متوقعاً. لكن الحيوانات «المحظوظة» في العراق لم تكن الحمير، بل الكلاب. ظهرت عشرات القصص في الإعلام الأمريكي، المقروء والمرئي، عن إنقاذ كلاب عراقية ونقلها إلى أمريكا لتكون بقرب الجنود الذين «صاحبوها» أثناء «وجودهم» في العراق. وما يهمّنا هو المفردات والسردية التي تكررت في هذه الحكايات السعيدة. فعادة ما تبدأ بذكر العطف الذي أبداه الجندي نحو الكلب، والتشديد على أن الكلاب تعامل بقسوة في العراق (بأكمله). ويفوت معدي التقرير، والجندي العائد، أن الكلاب ليست سواسية في العراق. ولا شك أن الكلاب السائبة التي رآها ولاطفها بالقرب من معسكره، أو أثناء دوريته، تختلف عن تلك التي لها أصحاب وبيوت، وقد تعيش في بحبوحة نسبية، وقد لا تعاني مثل الكلاب السائبة، التي وقع عليها نظر الجندي. تتحدث التقارير بأسلوب مثير عن الرحلة الطويلة وتواطؤ الجنود في أماكن عدة في القواعد الأمريكية المنتشرة في بلدان المنطقة، لأن نقل الكلاب لم يكن مسموحاً به رسمياً. وهناك منظمات لحقوق الحيوانات تساعد وتساهم مادياً لدفع تكاليف إيصال الكلب إلى الولاية التي يسكن فيها «صاحبه». وتنتهي معظم القصص بذكر الحمّام الذي تمتع به الكلب بعد وصوله إلى أرض الميعاد، والنظافة التي لم يعرفها من قبل، والفحص البيطري للتأكد من صحته، وتظهره بعد ذلك يتجول مع صديقه الجندي.. بحريّة.
كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى