عام هجري جديد يحمل دعوات للسلام والأمل

د. احمد الهباهبه
في مطلع العام الهجري الجديد 1447 هـ، الذي يصادف هذا العام نهاية شهر حزيران، يقف المسلمون في أنحاء الأرض أمام لحظة زمنية تحمل من المعاني ما يفوق بكثير وقع التقويمات والروزنامات. إنها لحظة تذكّر تاريخي ووجداني بهجرة النبي محمد ﷺ من مكة إلى المدينة، والتي شكّلت نقطة تحوّل حضاري في مسار أمةٍ بكاملها، حيث انتقل فيها الإسلام من دائرة الاستضعاف إلى بناء الدولة، ومن ضيق الاضطهاد إلى أفق الشراكة المجتمعية والتأسيس لقيم العدل والرحمة.
العام الهجري الجديد لا يأتي كاحتفال موسمي، ولا مناسبة لتبادل التهاني فحسب، بل هو محطة تأمل ومراجعة. إن الهجرة، في معناها العميق، ليست فقط خروجًا من مكان إلى آخر، بل هي خروج من الظلم إلى العدل، من الجمود إلى الحركة، ومن الفردية إلى العمل الجماعي المسؤول. في هذا الزمن الذي يضجّ بالأزمات والحروب والنكبات، تستعيد الأمة الإسلامية هذا المعنى العميق للهجرة، عسى أن يكون حافزًا لمغادرة مواقع الفوضى والخطاب السلبي، والسير نحو قيم الرحمة، والإصلاح، والسلام الحقيقي.
يأتي المحرم، وهو أول شهور السنة الهجرية، ضمن الأشهر الحرم التي حرّم الله فيها القتال والاعتداء، ليذكّرنا جميعًا بأن الأصل في العلاقة بين البشر هو السلم، وأنّ الدعوة إلى الخير لا تحتاج صخبًا، بل تحتاج صدقًا وإرادة. ويوم عاشوراء، الذي يحلّ في اليوم العاشر من هذا الشهر، هو مناسبة ذات دلالة عميقة، يحييها المسلمون عبر الصيام، والذكر، والتأمل، في تذكّر لنجاة نبي الله موسى عليه السلام ومن آمن معه، وفي تعبير عن التمسّك بالحق ونصرة المظلوم، أياً كان اسمه أو موطنه.
في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها كثير من الشعوب المسلمة، من فلسطين إلى السودان، ومن اليمن إلى لبنان، لا تعود المناسبات الدينية شأناً شخصياً فقط، بل تصبح لحظات جماعية يُعاد فيها طرح الأسئلة الكبرى: كيف نوقف دوامة العنف؟ كيف نُعيد للأخلاق مكانتها في السياسة والمجتمع؟ وكيف نُعلّم أبناءنا أن الدين ليس مظاهر ولا شعارات، بل بناء مستمر للإنسان والأمة؟
هذا العام، أكثر من أي عام مضى، نحن بحاجة إلى أن يكون المحرم بداية صادقة لهجرة أخلاقية نحو الأفضل. هجرة من التنازع إلى الوحدة، من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الضغينة إلى التسامح. هذه ليست دعوة مثالية، بل ضرورة واقعية في زمن تتآكل فيه الثقة، وتتسع فيه الفجوات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومن هذا المنطلق، لا بد أن نستثمر هذه المناسبة لتعزيز ثقافة المسؤولية الفردية والجماعية، وتكريس قيم الحوار والتعاون والاحترام المتبادل.
العام الهجري، مناسبة للوحدة في المقاصد، والالتقاء حول الثوابت الكبرى التي يجتمع عليها المسلمون: الإيمان، العدل، الكرامة، والنهوض بالمجتمع نحو الأفضل. ومثلما واجه النبي ﷺ تحديات الهجرة بالإيمان والعمل والصبر، فإن علينا اليوم أن نواجه تحدياتنا بروح إصلاحية تعيد ترتيب الأولويات، وتُقدّم المصلحة العامة على الحسابات الضيقة.
وفي هذه المناسبة، لا بد من دعوة وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية إلى أن تلعب دورًا إيجابيًا في نشر الوعي الحقيقي بهذه المناسبة، بعيدًا عن التكرار والسطحية. آن الأوان لأن نرتقي بمضمون الخطاب الديني والاجتماعي المرتبط برأس السنة الهجرية، وأن نربط الناس بجوهر القيم التي بُعث من أجلها الرسول الكريم، قيم الرحمة والتعايش والعدالة.
وفي الختام، نرفع أيدينا بالدعاء أن يكون هذا العام عام سلام حقيقي، تبدأ فيه القلوب بالتصافح قبل الأيدي، وتزول فيه الغمامة التي أثقلت كاهل الشعوب، ويعود فيه الأمل إلى النفوس المتعبة. عام يخطو فيه أبناؤنا نحو العلم والعمل لا نحو التيه والشتات. اللهم اجعل هذا العام الهجري فتحًا للخير، وبابًا للسكينة، ومنطلقًا لتجديد النية في بناء حياة تُرضيك وتخدم الإنسان. وكل عام وأنتم بخير .