مقالات و آراء

رحيل أفقر رئيس… زارع الأقحوان والطماطم

افقر رئيس في العالم

مقالات واراء – هلا نيوز 

سنان انطون 

رحل خوسيه ألبيرتو موخيكا (1935-2025) الرئيس السابق للأوروغواي (2010-2015) الذي وُصف وسيظل يوصف بأنه «أفقر رئيس في العالم». وفي حاضرنا المدمِن على السرعة والعناوين البرّاقة، سيُختزل الرجل وتاريخه، وستُسطّح رؤيته وفلسفته بهذه الجملة، وبتفاصيل مثيرة، وغريبة، بل صادمة عن رئيس عرف بزهده وبساطته وتواضعه. رئيس كان يتبرّع بتسعين في المئة من راتبه للفقراء، ورفض أن يعيش في القصر الرئاسي وجعله ملجأ للمشردين. الرئيس موخيكا الذي ظل يقود سيارته الفولكس الزرقاء 1987 والتي رفض أن يبيعها، حتى بعد أن عرضوا عليه مليون دولار! كل هذا في عالم تقدّس ثقافته الرأسمالية السائدة الثراء الفاحش وأصحابه ممن تعلو جبال رساميلهم لتناطح السماء، وهي تقبر تحتها الفقراء وتحتقر البسطاء والمهمّشين وتقصيهم عن ملكوتها المسوّر. لكن موخيكا لم يعتبر نفسه فقيراً، فالفقير، في رأيه، ليس الذي لا يمتلك الكثير، بل من يظل يشتهي المزيد ولا يكتفي بما لديه، «أسلوب عيشي هو ثمرة جراحي. أنا ابن تاريخي. عشت سنوات كنت سأسعد فيها لو كانت لديّ فرشة».
قلّما يترحم المرء في هذا العالم على رئيس، أو زعيم يقضي نحبه، فالغالبية الساحقة منهم يتركون إرثاً مخزياً، وسجلاً حافلاً بالجرائم والفضائح والخراب المتراكم، ويتركون ثروة لورثتهم، نهبوها بفضل وجودهم في مناصب لم يضحّوا في سبيلها، ولا استحقوها أصلاً، بل ورثوها أو استولوا عليها. وما كانت وسيلة لحكم نزيه، بل غاية وأداة استثمار وجشع. أما موخيكا فهو استثناء نادر، ويجب ألا ينسى العالم أو يتناسى سلالته السياسية ومبادئه ومنابعه الأيديولوجية وتاريخه النضالي وكل ذلك تمثّل في ممارسته ورؤيته.

انخرط «بيبي» في السياسة حين كان في الرابعة عشرة، وقال إنه سيظل منهمكا بها حتى يُحمل إلى قبره وهو ما كان، درس القانون لكنه انخرط في النضال الطلابي وترك الدراسة. في أوائل الستينيات، كان من مؤسسي حركة التوباماروس الثورية، التي تأثرت بالثورة الكوبية، التي أسسها النقابي راؤول سندك، وشنت حرب عصابات ضد النظام في أوروغواي، تُرجم كتاب ريجيس دوبريه «نحن التوباماروس: تجربة حرب عصابات المدن في الأوروغواي» إلى العربية في 1972 وصدر عن دار ابن خلدون. واسم الحركة مستلهم من توباك أمارو الثاني (1740-1781). وهو من آخر سلالات حكام الإنكا، الذي قاد تمرد الفلاحين ضد الاستعمار الإسباني في جنوب بيرو، والذي اتسعت رقعته ليصل الأرجنتين وبوليفيا. اعتقل الإسبان أمارو وعائلته في 1781 وبعد أن أجبروه على أن يشهد بأم عينيه زوجته وأبناءه يعدمون، قطعوا رأسه وأطرافه. لكن التمرد استمر إلى أن أصدر الإسبان عفواً عاماً. كان التوباماروس يحاربون من أجل مجتمع لاطبقي. ويسرقون المصارف لإطعام الفقراء والمحتاجين. يذكرنا ذلك بمقولة برتولد بريخت (1898-1956) «ما هي سرقة مصرف إذا ما قورنت بفتح مصرف؟». في نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات صعّدت الحركة من عملياتها بغارات على مخازن الأسلحة واختطاف السياسيين المتورطين في اضطهاد المواطنين والمتآمرين مع النظام، واقتيادهم إلى «سجن الشعب». في 1970 اختطفت الحركة دانييل متروين، المستشار الأمريكي لقوات الأمن في أوروغواي وأعدمته، واستلهم قسطنطين كوستا غافراس فيلمه «حالة حصار» (1972) من هذه الواقعة.
قتلت السلطات 300 من أعضاء التوباماروس واعتقلت 3000، من بينهم مؤسس الحركة سيندك، لكنه هرب مع مئة من رفاقه، من بينهم موخيكا، بحفر نفق من السجن إلى بيت بالقرب منه. هرب موخيكا من السجن مرتين، ولكنه اعتقل في 1972. وأمضى 14 سنة عذّب خلالها وأمضى عقداً بأكمله في الحبس الانفرادي، معظم الأحيان في قعر بئر كان يحاور فيها الضفادع والحشرات لئلا يصاب بالجنون ويشارك الفئران فتات الخبز. في 2018 أخرج ألفارو برشنر فيلماً روائياً مؤثراً بعنوان «ليلة الإثني عشر عاماً» عن عذابات سنين السجن التي عاشها موخيكا ورفيقاه إلوتيريو هويدوبرو الذي شغل منصب وزير الدفاع بين 2011 و2016 والشاعر والروائي موريسيو روسينكوف. بعد التحول الديمقراطي في 1985، أطلق سراح معظم السجناء السياسيين. لم يتخل موخيكا عن النشاط السياسي بعد خروجه من السجن. انتقل مع رفيقة نضاله ورفيقة السجن، لوسيا توبولانسكي، التي تزوجها إلى مزرعة خارج العاصمة مونتيفيديو. يزرعان ويبيعان الطماطم وزهور الأقحوان في الأسواق المحلية. أسس التوباماروس حزب حركة المشاركة الشعبية، وكان موخيكا من أبرز قادته. انضم الحزب إلى «التحالف الواسع» في انتخابات 1989. وانتخب إلى مجلس الممثلين (1995-2000) وكان يذهب إليه راكباً دراجته النارية. وحين رآه أحد الحراس يركن دراجته أمام المجلس، وسأله ما إذا كان سيمضي وقتاً طويلاً، فرد موخيكا «آمل ذلك». ومن ثم انتخب إلى مجلس الشيوخ في 2000 وأعيد انتخابه في 2004. وفي 2005 انتخب الأوروغوائيون زعيم التحالف، الاشتراكي تابار فاسكويز رئيساً. وكان أول رئيس اشتراكي للأوروغواي. وتولى موخيكا وزارة الزراعة حتى 2008. في 2010 انتخب رئيساً. وكانت سياساته الاقتصادية والاجتماعية ناجحة. انخفضت خلال رئاسته معدلات البطالة والفقر ووفيات الأطفال وتطورت الطاقة المتجددة.
من أقواله البليغة عن عالم اليوم «نحن في عصر لا يمكن لنا أن نعيش فيه من دون الرضوخ لمنطق السوق. السياسة المعاصرة برمتها هي البراغماتية قصيرة الأمد.. وكل ما تبقى هو أن ننفذ بصورة آلية ما يمليه علينا السوق. تطوير الحضارة هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقمع ويسيطر على الوحش المفترس الكامن في دواخلنا. أحب البشر لذلك لا يمكنني أن أرضى بالمسار الذي تتبعه هذه الحضارة. يبدو أننا نسير نحو كارثة.. نبحر على متن سفينة في هذا الكون. ونحن مسؤولون عن هذه السفينة لكننا ندمرها من كل جوانبها… يجب أن لا نعود إلى الكهف، بل أن نعتني بمواردنا ونصنع عالماً أقل أنانية يمكن أن نعيش فيه. يدين العالم اليوم بدين الملكية والاستحواذ الذي يوضع في مرتبة أهم من قيمة الحياة ذاتها. الحياة أعجوبة وهي رصيدنا الأثمن».
*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى